تقارير و تحليلات

البنوك المركزية في موقف صعب .. هل تلجم زيادة الفائدة جماح التضخم؟

البنوك المركزية في موقف صعب .. هل تلجم زيادة الفائدة جماح التضخم؟

الضغوط التضخمية الراهنة حول العالم نتيجة نقص المعروض الدولي.

البنوك المركزية في موقف صعب .. هل تلجم زيادة الفائدة جماح التضخم؟

ما زالت أصداء جلسة الاستماع، التي عقدها أعضاء اللجنة المصرفية في مجلس الشيوخ الأمريكي مع جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قبل أيام، مدار حديث ونقاش لم ينته.
تصريحات باول تضمنت إقرارا بأن التضخم المرتفع بات تهديدا خطيرا لهدف الاحتياطي الفيدرالي المتمثل في المساعدة في إعادة مزيد من الأمريكيين إلى العمل، مؤكدا أنه سيتم رفع أسعار الفائدة أكثر مما يخطط له الآن- إذا لزم الأمر- لوقف الارتفاع الراهن في الأسعار.
تصريحات باول تكشف أن جدول أعمال الفيدرالي الأمريكي، الذي يحدد في الواقع جدول أعمال معظم البنوك المركزية الرئيسة في العالم يتضمن أمرين رئيسين: التضخم والتوظيف.
مع هذا، فإن الحديث يظهر بوضوح أن الأولوية في الوقت الحالي ستنصب على مكافحة التضخم، الذي يزداد سوءا، خاصة أن معدلات التوظيف في وضع أفضل.
وقد كان باول مباشرا عندما استشهد بالأرقام الرسمية للبطالة في الولايات المتحدة في شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما انخفض معدل البطالة إلى 3.9 في المائة، وهو ما يقارب التوظيف الكامل.
وتلك الأرقام لا تقارن بالطبع بما كان عليه الوضع في بعض أشهر 2020، عندما كان واحد من كل سبعة أمريكيين عاطلا عن العمل، ما دفع باول إلى التصريح بأن قضية التوظيف لم تعد أولوية بالنسبة له في الوقت الراهن على الأقل، مقارنة بترويض التضخم، منطلقا في ذلك من قناعته بأن ارتفاع الأسعار يمكن أن يؤدي إلى سحق الوظائف على المدى الطويل.
أهمية تصريحات باول تكمن في أنها توضح مسار الاحتياطي الفيدرالي في هذا العام، وأنه سيتحرك بقوة لتبني سياسات مالية متشددة، بعد أن تسارع معدل التضخم متجاوزا توقعات الخبراء.
في الواقع لم يكن باول يتحدث بلسان الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل كان يتحدث بلسان عديد من الاقتصادات المتقدمة في العالم والناشئة أيضا، فقضية التضخم ستحتل مقدمة التحديات الاقتصادية الدولية هذا العام من وجهة نظر قطاع كبير من الاقتصاديين، مع هذا يصعب القول بأن هناك إجماعا بهذا الشأن حتى الآن.
الخبير المالي في بنك إنجلترا دانيال هايمور يعتقد أن التطورات الجارية في الاقتصاد العالمي تجعل من التضخم قضية دولية بامتياز.
ويقول لـ"الاقتصادية" إن "الطلب القوي من قبل المستهلكين، واستمرار مشكلات التوريد وظهور متغير أوميكرون وتوقع ظهور متحورات جديدة من وباء كورونا، جميعها عوامل تؤدي لإطالة أمد ارتفاع الأسعار بشكل حاد حتى نهاية هذا العام. وأغلب مصنعي المواد الغذائية في العالم أعلنوا زيادات في الأسعار حتى قبل أن يبدأ 2022 نتيجة ارتفاع تكاليف المكونات الغذائية، وازدحام النقل ونقص العمالة وارتفاع الأجور، وتزايد أسعار الإيجارات".
ويضيف "القضية لا تتعلق بحدوث تضخم أم لا، القضية تتعلق الآن بمعدل التضخم ومتى ستستقر الأسعار، وإذا لم يهدأ التضخم، فإن ذلك يضع البنوك المركزية في العالم في موقف صعب بالانسحاب التدريجي من دعم الاقتصادات عبر زيادة أسعار الفائدة وقد تبدو ضرورية لكنها غير كافية".
لا شك أن البنوك المركزية تتمتع بسلطة مباشرة وقوية لاتخاذ ما يلزم من تدابير لكبح جماح التضخم. أداتها السياسية الرئيسة في ذلك تتمثل في تحريك أسعار الفائدة، التي يمكن رفعها أو خفضها اعتمادا على ما إذا كانت تريد تهدئة الاقتصاد أو تعزيزه، ومع الإقرار بأن هذه الأداة لها تأثير واسع في الاقتصاد، إلا أنها لا تفلح دائما في أن تحرز النجاح المطلوب، فعلى سبيل المثال استهداف الصناعات المتعثرة أو إصلاح سلاسل التوريد المعطلة أو القضاء على كورونا، عبر أسعار الفائدة أمر غير مجد في معظم الأوقات، والمشكلة أن تلك العوامل تلعب دورا رئيسا في ارتفاع معدلات التضخم في الوقت الراهن.
مع هذا يتوقع كثير من محافظي البنوك المركزية أن ينخفض التضخم إلى 2.6 في المائة بنهاية العام الجاري، وأن يواصل الانخفاض في 2023 إلى 2.3 في المائة، لكن بعض الاقتصاديين يشككون في أن ينخفض معدل التضخم الكلي إلى هذا الحد، حتى وإن كان هناك دلائل على أن المشكلات الراهنة في سلاسل التوريد ستخف، وأن الاقتصاد سيستمر في النمو.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة ماري جونسون الاستشارية في البنك المركزي الأوروبي، "خلال جلسة الاستماع التي عقدها جيروم باول مع أعضاء مجلس الشيوخ أخيرا كان من الواضح أن صبره بدأ ينفد من إصرار أعضاء مجلس الشيوخ في تبني وجهة نظر بعض الاقتصاديين من أن زيادة معدل الفائدة سيبطئ التوظيف، وسيترك عديدا من الأشخاص، خاصة ذوي الدخول المنخفضة دون وظائف".
وتضيف "وكما يعبر باول عن وجهة نظر عديد من محافظي البنوك المركزية في العالم، فإن المشرعين في الولايات المتحدة يعبرون عن مخاوف مشروعة بأن يؤدي التركيز على معالجة التضخم إلى ارتفاع معدلات البطالة، خاصة أن رفع أسعار الفائدة عادة ما يؤدي إلى فائدة أعلى على القروض الاستهلاكية والتجارية وله تأثير سلبي في النمو".
لكن بعض الخبراء يرون أن قضية التضخم بصفتها القضية الأولى على جدول الاقتصاد العالمي مبالغ فيها، وأن الضغوط التضخمية الراهنة بسبب نقص المعروض الدولي، الذي تفاقم أيضا بسبب عوامل مرتبطة بحالة الطوارئ المناخية في بعض الدول، وتضرر الإنتاج الزراعي في دول أخرى بسبب تزايد تواتر الظواهر الجوية المتطرفة، وقد أسهم ذلك في رفع الأسعار في عديد من البلدان الصناعية المتقدمة إلى أعلى مستوى له منذ عقدين من الزمان، خاصة في نهاية العام الماضي، فيها خلط في فهم القضية.
البروفيسور لونج مارلون، رئيس قسم الاقتصاد سابقا في جامعة شيفيلد يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا "أزعم أن التهديد مبالغ فيه، وهو ينبع إلى حد كبير من الخلط بين الزيادة في مستويات الأسعار والتضخم الحقيقي الذي يعرف بأنه زيادات مستمرة ومتقلبة في معدل نمو الأسعار، ويمكن تفسير ارتفاع الأسعار إلى حد كبير من خلال مشكلة عدم قدرة الموردين على توفير سلع كافية لتلبية انتعاش طلب المستهلكين. وأحد التطورات الرئيسة، التي اتضحت بحلول نهاية 2021 وهو أن المعروض من السلع المصنعة قد تعافى بما يكفي لتصحيح هذا الخلل التضخمي".
ويضيف "في نوفمبر 2021 ارتفعت مخزونات التصنيع في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان بين 20 و30 في المائة عن الشهر السابق، وبشكل عام في شهر ديسمبر الماضي كان الناتج الصناعي العالمي أعلى 12 في المائة عن العام السابق، بعد أن أظهر انكماشا سنويا 5 في المائة".
من تلك الأرقام يستنتج البروفيسور لونج مارلون أن خطر التضخم المصحوب بالركود لن ينحسر فحسب، بل يشير أيضا إلى أن دوامة أسعار الأجور، حيث يكون العمال قادرين على المطالبة بأجور أعلى وأعلى لجعل التكلفة متزايدة بشكل دائم، وبما يوجد حلقات تضخمية خطيرة، أمر غير مرجح.
وجهة نظر البروفيسور لونج مارلون تخلص إلى أن البنوك المركزية الكبرى قد تخطئ في الذهاب بعيدا في رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، وهذا ما يجعله من المعترضين على خطوة بنك إنجلترا الذي أعلن عن أول رفع لأسعار الفائدة في ديسمبر الماضي من 0.1 إلى 0.25 في المائة.
وإحقاقا للحق، فإن قضية التضخم بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية تجعل البنوك المركزية في وضع لا تحسد عليه. فالصعوبة التي تواجه البنوك المركزية تكمن في أن الأسعار يمكن أن تستمر في الارتفاع لبعض الوقت، والخطورة أن ارتفاع الأسعار ربما لن يتوقف عند حدود قطاع السلع، إذ يمكن أن يمتد أيضا إلى قطاع الخدمات، وفي هذه الحالة، فإن اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة لن يكون مجديا، ولن يفيد في حل تلك المشكلة.
من جهته، يرى راندل جورج، الرئيس السابق لقسم الائتمان المالي في مجموعة نيت وست المصرفية والاستشاري المصرفي أن احتمالية حدوث دوامة في أسعار الأجور هو ما يقلق البنوك المركزية، خاصة أن عديدا من البلدان المتقدمة تشهد بالفعل ضغوطا على الأجور تتطور بشكل طبيعي مع انتعاش العمالة نتيجة زيادة الطلب على الموظفين، وأن هذا الاتجاه يزداد بسبب نقص العمالة والذي يرجع إلى حد كبير للعوائق، التي تفرضها الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة على المهاجرين.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إنه "على الرغم من أن المخاوف بشأن ضغوط الأجور لها ما يبررها، إلا أنه ينبغي مع ذلك أن نرى الصورة من جوانبها المختلفة، وليس فقط من زاوية الولايات المتحدة والاقتصادات الغربية واليابان. ففي الصين أول اقتصاد يتعافى من الوباء، تعمل السلطات الآن على تخفيف السياسة النقدية والمالية لمواجهة التباطؤ الذي حدث في أعقاب التعافي، وعلى عكس سياسات التحفيز الصينية في الأعوام الفاصلة بين الأزمة المالية العالمية 2008 وظهور وباء كورونا، التي دفعت النمو الاقتصادي العالمي إلى حد كبير، فإن الإجراءات الصينية الراهنة لا تهدف إلا لاستقرار الاقتصاد، نتيجة خشية السلطات الصينية من زيادة مديونية البلاد".
من هنا تحديدا يرى راندل جورج أنه مع عودة سلاسل التوريد العالمية إلى نوع من الحياة الطبيعية واستمرار الصين في تبني سياسات مالية ونقدية ذات طابع حذر، فإن التأثير العام على المدى المتوسط وليس الطويل سيتمثل في تلاشي التضخم تدريجيا من تلقاء ذاته.
ومن ثم، فإن رفع أسعار الفائدة والتراجع السريع عن التيسير الكمي إذا ما لجأت إليه البنوك المركزية سيؤدي إلى خنق الانتعاش، في وقت تصارع فيه عديد من البلدان النامية والناشئة على حد سواء للوقوف على أقدامها بعد الضربات المؤلمة التي تلقتها من وباء كورونا، ما يجعل الاقتصاد الدولي ينتهي به المطاف إلى التباطؤ في النمو وربما الركود الاقتصادي.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات