الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

صخور «وادي الطيبة» إلى «إكسبو»

(تصوير: حسن الرئيسي)
22 أكتوبر 2021 01:04

نوف الموسى (دبي)

أنت تحتاج إلى السؤال أولاً، إلى الوقوف مذهولاً أمام شغف الإجابة، وفي كثير من الأحيان، ليس مهماً أن تعرف حقيقية الإجابات، بل أن تستمع في تجربة المجهول، وإلا ما القيمة المرجوة من الفضاءات في الأماكن العامة، سوى أنها فُرص مستمرة للنمو، تتيح للأشخاص مستويات من التفاعل، وصولاً إلى حالة رفيعة من المتعة، ولكن سيبقى السؤال دائماً طريقتنا لتحديد الدافع خلف الرغبة في الاكتشاف، خاصةً أنها تخلق لنا احتمالات جديدة للواقع، أمام تحديات لمشهدية معاصرة، يبحث فيها الإنسان طوال الوقت عن علاقته بواقعية الأرض والمكان، مستخدماً حس التخيل الاستثنائي، نراه في منحوتة «ترحال» للفنان الإماراتي عبدالله السعدي - ينتمي لجيل رائد من الفنانين الإماراتيين العاملين في دولة الإمارات - من نقش على صخور وادي الطيبة في إمارة الفجيرة لوحات تصويرية، تتضمن بيوتا صغيرة فوق الجبال بجانبها مسجد، تتناثر على أسطحها نباتات جبلية، باستخدام «اكريليك» مدهون على الصخور، مسجلاً لقاءً للعناصر الطبيعية، من خلال لغة بصرية متصلة بتاريخ جيولوجي، أرسى بها في مساحة مفتوحة بـ «إكسبو 2020»، ويأتي إدراك تأثير حضور الصخور الممزوجة بلون الأرض، تحت مظلات الطاقة الشمسية، تجسيداً للامتداد الحضاري للإنسان على أرض الإمارات، تفسره حركة الفنان عبدالله السعدي وهو يمشي على قدميه في مدينة خورفكان «مكان ولادته»، مروراً بالمناطق الحدودية بين دولة الإمارات وسلطنة عمان، وتجارب الرحلات إلى أميركا اللاتينية، إنه بحثٌ عميق في الدلالة الإنسانية، وشكلت الحراك الثقافي المحلي لسنوات عديدة، توجها الفن المفاهيمي منذ الثمانينيات، وحضورها في «إكسبو 2020»، تأكيد على الحالة الفنية الخاصة النابعة من فكرة الانفتاح على المقاربة والربط بين المرئيات المحلية والتصورات العالمية.

بجانب أعمال الفنان الإماراتي عبدالله السعدي «مواليد 1967»، منطقة جلوس لطيفة، يُسمع بالقرب منها على بعد أمتار صوت النوافير الصغيرة، القادرة على أن تروي صخور وادي الطيبة، التي عُرف أهلها بحبهم للنخيل، وبحسب المرويات فإن سبب التسمية يعود للرائحة الطيبة للوادي، القادمة من ثمار أشجار الفواكه، ومن هذا البعد الشاعري، أضفى الفنان عبدالله السعدي، قيمة فنية، ساهمت بفتح حوار فني، عن الوادي، والأهمية البصرية في تأمل الرسومات على ثلاث صخور كبيرة نسبياً، تقف على قواعد، تحفظ لها توازنها الممتد على الأرض، وتذهب بالمتلقي إلى طريقة السعدي التفصيلية، في البحث والتجميع، من يتعامل مع العنصر الطبيعي، باعتباره جزءاً حيوياً من التاريخ الشخصي للفرد، تتصورها كمخزون ضخم تتضمن: كل أرض تطأ قدماه عليها، كل نسمة هواء باردة، كل حركة طفيفة للأشجار، كُل شرخ محفور في الصخور، كل ورقة خريفية تسقط في مياه الوادي، كل عمارة عشوائية للرواسب المتراكمة، كل صوت تصدره الريح بينما تستقبل المواسم والفصول، كل تداخل بين ما هو حضري وعفوي في البيئة الطبيعية، كل الحوارات التي تحدث بين الإنسان والكائنات الحيّه باختلافها، كل تلك المضامين وغيرها تترابط في المذكرة اليومية، وتحديداً في النشاط الأدائي للفنان، بينما يتحرك بين منطقة طبيعية وأخرى في الإمارات، إنه تسجيل مرئي للمتغيرات البدائية، مثلما هي الاكتشافات الفضائية، ومجهود السعدي يبرز في توثيق طبيعة المكونات الطبيعية التي شكلت الهويات وطرق تفكير الإنسان في الإمارات، والتي تعد بمثابة مرتكز أساسي لفهم تطور العلاقة بين الإنسان والأرض، التي من شأنها أن تمنح مرجعاً علمياً فنياً للمشاركين في محادثات إكسبو 2020، الهادفة إلى استدامة ارتباطنا بالأرض والطبيعة الأم، كأساس لبناء المشروعات والبرامج التنموية المتناغمة مع المتغيرات الجغرافية والمناخية.

«ترحال»، وصف بديع لمنحوتة متداخلة مع مكان عام، ذات رمزية دقيقة، توصف الحركة الدائمة للطبيعة، ما يعود بنا إلى قراءة أعمال معرض «رسائل أمي 1998 - 2013» للفنان عبدالله السعدي، ومحاولة فهم الخط الرفيع لشعور الفنان وارتباطه بالطبيعية، والتوصل للغة مشتركة عامة بين «ترحال» ومجموعة الأعمال النوعية في مسيرته الفنية، ولماذا اخترنا في هذا المقام رسائل والدة السعدي؟ فعلياً يعود السبب إلى حميمية العلاقة الأولى بين الإنسان وأمه، الشبيهة بعلاقتنا بالأرض تماماً، لك أن تتصور، عزيزي القارئ، كيف جمع عبدالله السعدي رسائل والدته على مدى سنوات، والحكاية بدأت عندما كانت تذهب والدته إلى باب مرسمه أو بيته، ولا تراه موجوداً، فكانت تنتقي حجراً أو معدنا أو غصن شجرة، وأحياناً قطعة خشبية، تتركها عند الباب، مؤشراً لمرورها، لنا أن نتخيل الفعل الفني لوالدة السعدي، أي جمال لافت صنعته بتصرفها العفوي - لا تعرف القراءة والكتابة - ولكنها امتلكت حساً فنياً في استخدام وسيلة اتصال قديمة من خلال تشكيل الرموز عبر الطبيعة، إنها تستخدم إحساسها الوجودي القادم من إحساس الأرض، بل إن الطبيعة عادةً ما تتحدث إلينا بنفس الطريقة، فالعنصر من بحر وتراب وصخر هي الكلمات المصفوفة في جمل، وترتل علينا ليل نهار، ما يعكس عظمة الاتصال الكوني، لذا يتجاوز «إكسبو 2020»، حواجز اللغة الاعتيادية، من خلال برنامج الفنون البصرية في الأماكن العامة، وسط استقبال الحدث لملايين الناس من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية والاجتماعية، ويجمعنا عبر أعمال فنية تحت مظلة التأمل البصري.

عمل الفنان عبدالله السعدي، «ترحال»، ووفقاً للسياق التاريخي، لا يمكن فصله عن مشاريعه الفنية «رحلة قمرقند» و«الطوبي»، و«رحلة المقارنة والمقاربة»، و«مجموعة البطيخ»، وإمكانية الاشتغال عليها من قبل النقاد، في كونها نشاطاً فنياً يستحدث أثراً علمياً للدراسة، فيمكن التفكير بأن العناصر الطبيعية التي يعمل الفنان على مزجها وتكوينها وفق رؤية فنية، إنما هي دلالة ووسيط في أشكال استخدامات الإنسان للطبيعة، إلا أنه لا يستخدم عنصر الطبيعة في موضعه الوظيفي البدائي، بأن يتحول إلى أواني طهي أو فخاريات، بل إلى مستوى أعلى من الإبداع الإنساني، وهو إثارة الأسئلة بهدف إحداث التطور الفكري والروحي، وتعزيز الاتصال بالطبيعة، مثل مجموعته الفنية «النعال الحجرية»، التي أبدعها الفنان عبدالله السعدي، فباستخدامه للحجر من المنطقة المحلية، أعطى للنعال حساً نحو الهوية، وارتباطاً بالمكان، بينما عكس ثقل الحجر الخطى المثقلة ذات الارتباط بتحديات الحياة العصرية، محولاً الاستخدام الوظيفي للنعال في تقديم انسيابية وسهولة الحركة، إلى رصد آني لمرحلة المجتمع وقضاياه اليومية، ما يجعل العمل الفني بمثابة قطعة أثرية تستوجب التوثيق والرصد والمتابعة والتساؤل: هل ستتغير تأثيرات المواد المستخدمة في النعال الحجرية مع الوقت؟ وفي حالة الإيجاب، هل سيتم تصنيف التغير الحاصل في القطعة الفنية، بناءً على المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟ فمن المهم إدراك أن مسألة الاستدامة في عمقها تستدعي التلاشي والزوال للعناصر الطبيعية، لاستمرار بناء دائرة خلق جديدة للحياة على كوكب الأرض. 
حرص القائمون على الشؤون الثقافية بـ «إكسبو 2020» على بيان إيقاع الفنون البصرية المتداخل مع مختلف أجنحة الدول المشاركة، ولذلك فإن موقع عمل الفنان عبدالله السعدي «ترحال» بالقرب من جناح سان مارينو، وتقاطعات الطريق باتجاه شارع الشروق، إلى جانب مجموعة من الأعمال الفنية، لمختلف الفنانين المشاركين في برنامج الفنون البصرية في الأماكن العامة، المتوضعة في مختلف المواقع في إكسبو، قد حددت مسبقاً، قبل عملية الإنشاء، حيث لم تتم إضافة الأعمال بعد انتهاء جماليات العمارة المختلفة للبلدان المشاركة، بل كانت جزءاً من المخطط الأولي قبل تدشين مرحلة الإنشاء المبدئية، ما يعني أن حجم وطبيعة حضور الأعمال الفنية، أضافا طابعاً متفرداً للمساحات المحيطة من حولها، وشكلت بطبيعة الأمر، سينوغرافيا خاصة فيها، والمُستلهمة جميعها من «كتاب المناظر» لعالم الرياضيات والفلك والفيزياء العربي الشهير ابن الهيثم، الذي أنجزه في بدايات القرن الحادي عشر الميلادي.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©