عادي
فقه الدولة

الحريات الشخصية.. حق شرعي للمسلمين وغيرهم

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

تسعى الجماعات المتطرفة لتجنيد الشباب والسيطرة على عقولهم عبر المتاجرة بالمفاهيم، من خلال التفسيرات الخاطئة للنصوص بهدف نشر أفكارها. وتهدف هذه الجماعات لوضع الدين في مقابل الوطن لإحداث حالة من التشتت، وترسيخ مفاهيم مغلوطة، كأن الدين والوطن نقيضان، لضرب استقرار المجتمعات والتهوين من مكانة الأوطان، التي تعلي نصوص الشريعة الإسلامية منها، بل جعلت حب الأوطان جزءاً من عقيدة المسلم.

والمؤكد أن مواجهة هذه الجماعات تبدأ من تفنيد أكاذيبها ومتاجرتها بالدين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وبيان أن فقهها يعتمد على فهم خاطئ للنصوص، وشائعات وأكاذيب، وأن هذه الجماعات تهدف لإحداث قطيعة متعمدة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتهوين إنجازاتها بهدف تفكيكها وضرب استقرارها، فهذه الجماعات ترى أن كل ما يساعد على بناء الدولة يضعف كياناتها، لأنها لا تقوم إلا على أنقاض الدول.

الإسلام ينطلق، حسب د.محمد عبدالستار الجبالي، أستاذ ورئيس قسم الفقه بكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر، من أن الاختلاف كامن في طبيعة الحياة، فقد خلق الله تعالى الكون ومن فيه على أساس من الاختلاف الظاهر في النوع والعدد. قال تعالى «وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ» الآية (22) سورة الروم.

ويؤكد الجبالي أن الإسلام لا يقاطع الآخر، ولا يحرم أصل التعايش مع غير المسلمين، وواصفاً القرن الذي نعيش فيه بقرن زيادة التواصل والتحاور البشري، أو قرن التدافع الثقافي، وهذا توجه مهم ومفيد يلزم المسلمين باستقباله والتعامل معه بإيجابية.

ويقول د.محمد عبدالستار الجبالي: منهجية الحوار بالبيان والحكمة إنما هي منطلق أساسي في القرآن الكريم، فالمسلمون مطالبون بالسعي للحوار مع غيرهم بما يحقق وضوح الرؤية ويجمع الكلمة على المبادئ والقيم الربانية الخالدة. ومن المهم أن نعترف ونتيقن أن الأمة الإسلامية تحكم علاقتها وتحاورها قواعد تقوم على أساس صحة كل علاقة وسلامة كل حوار، كما تحكمها قيم وآداب لا ينبغي تجاوزها، ولا يصح معها التنقيص من معتقدات الآخرين، وهذا صريح في قوله تعالى «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» الآية (108) سورة الأنعام.

ويشير إلى أن الجماعات المتطرفة تصدر عنها تصرفات تخالف تعاليم الشريعة الإسلامية، وتسعى للصدام مع الآخر، وتحاول تصوير أن العلاقة مع المخالف علاقة صدام وقتال، لكن الإسلام دين التسامح وقبول الآخر يحرم ويجرم ازدراء الأديان.

ويضيف: المجتمعات الإسلامية، وفق تعاليم الإسلام وقيمه، مأمورة باحترام الخصوصية والتزام العدل والإنصاف مع وجود الاختلاف في العقيدة، وإذا كان التدافع بين الناس حقيقة أوضحها القرآن الكريم لتحقيق الحياة الأفضل، فإنه جدير بحماية حرية الناس في معتقداتهم وأنماط حياتهم، وصيانة معابدهم على اختلاف مللهم. وقال تعالى «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الآية (40) سورة الحج.

والمتتبع لتعاليم الإسلام وأحكامه يجد، حسب د.محمد عبدالستار الجبالي، أن علاقة المسلمين بغيرهم تقوم على أسس وقواعد لا بد منها في الحياة الاجتماعية والدولية، ومن خلال هذه الأسس التي أقرها الإسلام نَعِمَ غيرُ المسلمين بحقوقهم وحرياتهم كاملة في ظل حماية وحراسة المسلمين الذين كانوا يتسابقون في ضمان وكفالة هذه الحقوق، ترجمة لتعاليم دينهم التي تشع تسامحاً وعفواً ورحمة وعدالة.

ويشير إلى أن الحريات الشخصية من الحقوق المهمة التي قررها الإسلام لغير المسلمين وحماها على مر العصور، مستشهداً بالتاريخ، فلم يفرض ديننا على غير المسلمين أمراً يخالف تعاليم دينهم، ليس في الأمور المرتبطة بالعقيدة أو المواطنة أو الحرية أو التملك فحسب، ولكن في أمور الأحوال الشخصية، فتُركوا وما يختارون وفقاً لما تقرره مؤسساتهم الدينية من كنائس أو معابد أو غير ذلك مما يرتضيه غير المسلم.

ويؤكد الجبالي أن هذا موقف يجسد عظمة الإسلام وتسامحه واحترامه لخصوصيات المخالف في العقيدة وكفالة حقوقه وحرياته، وهذا الأمر مقرر ومكفول بقواعد شرعية، وتضبطه نصوص قرآنية خالدة ووصايا نبوية كريمة، لكننا نجد أن الجماعات المتطرفة تخالف هذه التعاليم، وتعمل على ترسيخ مفاهيم مخالفة لدى الشباب، بهدف ضرب وحدة الأوطان وتفتيتها. ويلفت إلى أهمية احترام الخصوصية، بوصفها من سبل الوقاية من مخاطر الجماعات المتطرفة، وينبغي أن تكون محوراً أساسياً عند الحديث عن مواجهتها، وبيان عظمة الإسلام في احترام خصوصية الآخر في كل ما يتعلق بالمأكل والمشرب والملبس والزواج والطلاق والميراث، وغير ذلك من الأمور التي تدور في إطار الحريات الشخصية، وتعاليم الإسلام وأحكامه التي تضمن احترام الخصوصية للآخر ثقافياً واجتماعياً وعقائدياً.

تكريم البشرية

يوضح د.محمد عبدالستار الجبالي أن احترام الإنسانية وتكريم البشرية الأساس الأول الذي تقوم عليه العلاقات، ضماناً للمسلم وتثبيتاً لقواعده، وأن القرآن الكريم صرح بهذا التكريم الإنساني في آيات كثيرة، منها قوله تعالى «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» سورة البقرة الآية (30). ويؤكد أن هذا التكريم لا يختص بعنصر دون عنصر، ولا بجنس دون جنس، بل الجميع سواء في حق الحياة الكريمة، وأن الشريعة الإسلامية جاءت بنصوص صريحة تقرر مبدأ المساواة على إطلاقها، بلا قيود ولا استثناءات، بلا فضل لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي، عملاً بقوله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الآية (13) سورة الحجرات، لأن الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من التراب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"