25 يناير.. يومان في التاريخ

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبدالله السناوي

بفارق زمني يقارب الستة عقود شهدت مصر يومين ملهمين في تاريخها الحديث لا يصح اصطناع التناقض بينهما بأي ذريعة.
الأول: (25) يناير (1952)، وقد أسس بالتداعيات لتغيير البيئة السياسية تماماً، وفتح المجال واسعاً لإطاحة النظام الملكي، وجلاء قوات الاحتلال البريطانية.
والثاني: (25) يناير (2011)، وقد عبر بالثورة عن عمق التطلع إلى الالتحاق بالعصر وبناء دولة حديثة، مدنية وديمقراطية وعادلة، كما عبر بالغضب عن مدى ما يعانيه المصريون من تهميش اجتماعي وتفشي للفساد وهدر للأموال العامة.
في اليوم الأول تصدى ضباط وجنود الشرطة في الإسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطاني رافضين تسليم مواقعهم.
أفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية، وما عبّرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام باليوم التالي في العاصمة ل«بلوكات النظام».. تداعت الأحداث بعده إلى حرائق في قلبها.
كان حريق القاهرة في (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذاراً أخيراً بأن كل ما فوق المسرح السياسي يوشك على الانهيار. أفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب. وفرضت الطوارئ ونزل الجيش لأول مرة في التاريخ المصري الحديث لاستعادة السيطرة وفرض الهدوء على المدينة المروعة.
إثر حريق القاهرة شاعت في الأجواء العامة قصيدتان. أولاهما للشاعر «إسماعيل الحبروك»: «سأنام حتى لا أرى.. وطني يُباع ويُشترى»، وثانيتهما للشاعر «مأمون الشناوي» دعا فيها الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكي: «غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل».
لم تكن إطاحة النظام الملكي حدثاً مفاجئاً قفز من خارج سياق الحوادث، أو بعمل سري محض جرى في الظلام. هكذا كانت معركة الإسماعيلية نقطة تحول جوهرية برسائلها وتداعياتها في معادلات السياسة المصرية.
أعطت بالشجاعة الفائقة رسالة إلى المستقبل، أن تحدي غطرسة المحتل ممكن، الصمود ممكن، إجبار العدو على احترامك ممكن، أن مصر يمكنها أن تقول كلمة أخرى.
كان عام (١٩٥١) مشحوناً بإشارات النهاية. كتب «إحسان عبدالقدوس» في «روز اليوسف» (٨) مايو مقالاً عنوانه «دولة الفشل».
جاء فيه بالحرف الواحد: «إننا في مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين.. الفشل في كل مكان.. وأمام كل خطوة ووراء كل زعيم، وفي حنايا كل ملف وفي ظلام كل درج، وفي طيات كل صوت.. والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يسوقونها من فشل إلى فشل ثم إلى فشل جديد».
أخطر ما في هذا المقال ما كتبه عن وزير الحربية، فهو «فاشل.. فشل حتى في الاحتفاظ باختصاصه، وترك الجيش يخرج من بين يدي الحكومة والشعب، ليكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطانها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل».
كان ذلك تلميحاً إلى أن هناك شيئاً قد يحدث من داخل الجيش لإنهاء دولة الفشل.
ولم يكن منعزلاً عما يحدث في منطقة قناة السويس من أعمال فدائية تستهدف معسكرات الاحتلال البريطاني، وقد كان «الضباط الأحرار» في قلب الحدث بالتدريب والتسليح طلباً للجلاء والاستقلال.
لكل حدث جوهري مقدمات تومئ إليه، وقد كانت معركة الإسماعيلية أحد العناوين الكبرى للوطنية المصرية في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخنا الحديث.
في اليوم الثاني، اكتسب (25) يناير (2011) صفة الثورة من أعداده المليونية، ومن طلب التغيير الشامل ومما ألهمه من آمال كبرى في الانتقال إلى عصر جديد. الذاكرة لا يمكن محوها، وأثر الثورة يستحيل حذفه. هذه حقيقة نهائية الصدام معها فيه خسارة للمستقبل.
أسوأ نظر إلى ثورة «يناير» وضعها على تناقض مع بطولة الإسماعيلية في اليوم نفسه قبل (59) سنة. ذلك المعنى لا يجب أن يضيع وسط أجواء الانقسام الحاد في المواقف والمشاعر.
بذات القدر فإن من يحاولون الاستهانة بطلب التغيير في (25) يناير (2011) بنفي صفة الثورة عنها، كأنها مؤامرة استهدفت الدولة، يرتكبون خطأ أفدح في فهم معنى ما حدث.
لم تكن «يناير» أول ثورة تُختطف، أو تُجهض، فقد لقيت ثورات أخرى المصير ذاته من دون أن تفقد قدرتها على الإلهام حتى حققت أهدافها بعد رحلة معاناة طويلة ومؤلمة.
الإنجازات الفعلية ليست كبيرة بالنظر إلى حجم التضحيات التي بُذلت، لكن شيئاً ما تحرك في عمق المجتمع يصعب أن يعود مرة أخرى إلى المربع رقم واحد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"