لحظة الساسة في بغداد

03:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
سليمان جودة

أتابع الأحداث العراقية منذ انطلاقتها قبل شهرين، وأحاول فهم ما يجري هناك، ولم أطالع كلاماً مسؤولاً عن الأحداث إلا مرتين، كانت إحداهما لآية الله علي السيستاني، وكانت الثانية لجينين دينيس بلاسخارت، مبعوثة الأمم المتحدة إلى العراق، في المرة الأولى كان السيستاني قد دعا إلى تنظيم استفتاء بين العراقيين، يتيح لهم اختيار نظام الحكم الذي ترى الأغلبية منهم أنه الأفضل لمستقبل البلاد، والأقدر على التعبير عن طموحات كل عراقي، والأكفأ من حيث ضمان الذهاب إلى مستقبل يليق ببلاد الرافدين، وكان معنى هذا الكلام أن نظام الحكم البرلماني، الذي جرى وضعه في مرحلة ما بعد صدام حسين، لا يستجيب لطموحات العراقيين ولا يحققها، وأن البحث عن نظام حكم بديل مسألة يجب أن تؤخذ بجدية واجبة.
وكان عادل عبد المهدي، رئيس الحكومة المستقيل، قد ألمح إلى شيء من هذا المعنى؛ عندما قال في غمرة الأحداث قبل نحو ثلاثة أسابيع، إن الاستفتاء على إعادة النظام الرئاسي، بدلاً من النظام البرلماني الحالي، قد يكون أمراً مطروحاً بقوة في الفترة المقبلة، ولم تكن هذه هي الدعوة الوحيدة التي أطلقها السيستاني؛ لأنه كان قد أطلق دعوة أخرى بالتوازي، وكانت هذه الدعوة الأخرى تطلب، ألا يحاول أي طرف إقليمي فرض إرادته على العراقيين، في الطريق إلى اختيار نظام الحكم الذي يبدو لهم مناسباً أكثر من سواه؛ ولذلك بدت الدعوتان كلاماً مسؤولاً، يعرف أن بلداً بحجم العراق لا يحتمل نظام حكم لا يلبي رغبة أبنائه في مستوى آدمي من الحياة، ثم كان الكلام يعرف أيضاً أن عاصمةً لها تاريخ بغداد في الثقافة، وفي الحضارة، وفي الفن، لا يجب أن تذهب إلى مستقبل أقل مما كان في مسيرتها على امتداد قرون من الزمان، وجاءت جينين لتشارك السيستاني كلامه المسؤول؛ عندما قدمت إحاطة أمام مجلس الأمن في نيويورك، فنددت بسقوط 400 مواطن ضحايا للأحداث، فضلاً عن جرح الآلاف، وقالت: إن المسؤولين في العاصمة العراقية مدعوون إلى الكشف عن القتلة الملثمين مجهولي الهوية ومحاسبتهم؛ لكن دعوتها الأهم كانت حين قالت في إحاطتها، إن الساسة في بغداد لا بديل أمامهم سوى الارتقاء إلى مستوى اللحظة؛ هذه العبارة ذات الكلمات الأربع، تمثل المطلوب بالضبط من كل مسؤول عراقي في لحظته الحالية التي لا تتواكب مع مستوى الحدث، والتي لا بد من هجرها إلى لحظة أخرى تالية، ويقتضي الانتقال بين اللحظتين عملية من عمليات الارتقاء، التي ينتقل من خلالها الشخص من مستوى أدنى إلى مستوى آخر أعلى، وهذا الانتقال، أو الارتقاء بمعنى أدق، لا يكون بالمجان في كل الأحوال؛ لكنه مدفوع الثمن سياسياً؛ لأنه ارتقاء يتطلب من صاحبه في مثل الحالة العراقية، أن يتطلع إلى الحدث الذي يملأ الأجواء من حوله في سماء البلد، وأن ينفتح على مطالب الحدث وأشواقه، وأن يستجيب لها ويتفاعل معها، أو يخرج من الإطار القائم إذا اكتشف أن الأحداث تسبقه وتتجاوزه، وقد بدا عبد المهدي منذ بدأ الحراك، غير قادر على التجاوب معه، ثم بدا في مرحلة تالية، واقفاً فوق أرضية ليست على صلة بالأرضية التي يحتشد فوقها الشباب في بغداد، وفي النجف، وفي كربلاء، وفي الناصرية، وفي كل مدينة عراقية أعلنت أنها لا تقبل النظام القائم. اللحظة التي يتطلع إليها شباب العراق، تبدو أعلى بمراحل من اللحظة التي يتمسك بها الساسة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"